فصل: لطائف التفسير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- الصيام شريعة الله لجميع الأمم فرضه الله على جميع المسلمين.
2- الصوم مدرسة روحية لتهذيب النفس وتعويدها على الصبر.
3- إختار الله شهر رمضان لفريضة الصيام لأنه شهر القرآن.
4- أهل الأعذار رخص الله لهم في الإفطار رحمة من الله وتيسيراً.
5- لا يجوز تعدي حدود الله ولا تجاوز أوامره ونواهيه لأنها الخير البشرية.

.خاتمة البحث:

حكمة التشريع:
مما لا شك فيه أن الصوم له فوائد جليلة، غفل عنها الجاهلون فرأوا فيه تجويعاً للنفس، وإرهاقاً للجسد، وكبتاً للحرية، لا دايع له ولا مبرر، لأنه تعذيب للبدن دون فائدة أو جدوى.. وعرف سرّ حكمته العقلاء والعلماء فأدركوا بعض فوائد وأسراره، وأيّدهم في ذلك الأطباء، فرأوا في الصيام أعظم علاج، وخير وقاية، وأنجح دواء لكثير من الأمراض الجسدية، التي لا ينفع فيها إلا الحمية الكاملة، والانقطاع عن الطعام والشراب مدة من الزمان. ولسنا الآن بصدد معرفة (الفوائد الصحية) للصيام، فإنّ ذلك مرجعه لأهل الاختصاص من الأطباء، ولكننا بصدد التعرف على بعض الحكم الروحية التي هي الأساس لتشريع الصيام- فإن الله عز وجل ما شرع العبادات إلا ليربي في الإنسان (ملكة التقوى) وليعوده على الخضوع، والعبودية، والإذعان لأوامر الله العلي القدير.
الأمر الأول: فالصيام عبودية لله، وامتثال لأوامره، واتقاء لحرماته، ولهذا جاء في الحديث القدسي: «كل عمل آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» فشعور الإنسان بالعبودية لله عز وجل، والاستسلام لأمره وحكمه، وهو أسمى أهداف العبادة وأقصى غاياتها، بل هو الأصل والأساس الذي ترتكز عليه حكمة خلق الإنسان {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} [الأنعام: 71].
الأمر الثاني: الأمر الثاني من حكمة مشروعية الصيام، هي تربية النفس، وتعويدها على الصبر وتحمل المشاق في سبيل الله، فالصيام يربي قوة العزيمة وقوة الإرادة، ويجعل الإنسان متحكماً في أهوائه ورغباته، فلا يكون عبداً للجسد، ولا أسيراً للشهوة، وإنما يسير على هدي الشرع، ونور البصيرة والعقل، وشتّان بين إنسان تتحكّم فيه أهواؤه وشهواته فهو يعيش كالحيوان لبطنه وشهوته، وبين إنسان يقهر هواه ويسيطر على شهوته، فهو ملاك من الملائكة {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام والنار مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12].
الأمر الثالث: أن الصوم يربي في الإنسان، ملكة الحب والعطف والحنان، ويجعل منه إنساناً رقيق القلب، طيّب النفس، ويحرّك فيه كامن الإيمان، فليس الصيام حرماناً للإنسان عن الطعام والشراب، بل هو تفجير للطاقة الروحية في نفس الإنسان، ليشعر بشعور إخوانه، ويُحسّ بإحساسهم، فيمدّ إليهم يد المساعدة والعون، ويمسح دموع البائسين، ويزيل أحزان المنكوبين، بما تجود به نفسه الخيّرة الكريمة التي هذّبها شهر الصيام، ولقد قيل ليوسف الصدّيق عليه السلام: لم تجوع وأنتَ على خزائن الأرض فقال: أخشى إن أنا شبعتُ أن أنسى الجائع.
الأمر الرابع: أن الصوم يهذّب النفس البشرية، بما يغرسه فيها من خوف الله جل وعلا، ومراقبته في السر والعلن، ويجعل المرء تقياً نقياً يبتعد عن كل ما حرّم الله، فالسر في الصوم هو الحصول على (مرتبة التقوى) والله تبارك وتعالى حين ذكر الحكمة من مشروعية الصيام قال: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ولم يقل (لعلكم تتألمون) أو (لعلكم تجوعون) أو (لعلكم تصحّون) والتقوى هي ثمرة الصيام التي يجنيها الصائم من هذه العبادة، وهي إعداد نفس الصائم للوقوف عند حدود الله، بترك شهواته الطبيعية المباحة، امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده، وهذا هو سرّ الصيام وروحه ومقصده الأسمى، الذي شرعه الله من أجله، كما بينه في كتابه العزيز، فللَّه ما أسمى الصيام، وما أروع حكمة الله في شرعه العادل الحكيم!!

.تفسير الآيات (190- 195):

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}
[9] مشروعية القتال في الإسلام:

.التحليل اللفظي:

{ثَقِفْتُمُوهُم}: الثّقْفُ: الأخذ، والإدراك، والظفر يقال: ثقفه وجده أو ظفر به.
قال في اللسان: ثَقِف الرجلَ: ظفر به قال تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب} [الأنفال: 57] ورجل ثقيف إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور.
قال الراغب: الثقفُ: الحِذقُ في إدراك الشيء وفعله، ومنه استعير المثاقفة ويقال: ثقفتُ كذا إذا أدركته ببصرك لحذقٍ في النظر.
وفي (الكشاف): الثقفُ وجودٌ على وجه الأخذ والغلبة، ومنه رجلٌ ثقف، سريع الأخذ لأقرانه، قال الشاعر:
فإمّا تثقفوني فاقتلوني ** فمن أثقفْ فليس إلى خلود

والمعنى: اقتلوا الكفار حيث وجدتموهم وظفرتم بهم في حِلّ أو حرم.
{والفتنة}: الفتنة: الابتلاء والاختبار، وأصلها من الفتن وهو إدخالُ الذهب النارَ لتظهر جودته من رداءته.
قال الأزهري: جماع معنى الفتنة: الابتلاء والامتحان، والاختبار، مأخوذ من قولك: فتنتُ الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميزّ الرديء من الجيد.
والمعنى: إيذاء المؤمن بالتعذيب والتشريد، بقصد أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفاراً، أعظم جرماً عند الله من القتل. وقال ابن عباس: الشرك أعظم من القتل في الحرم.
{والحرمات قِصَاصٌ}: الحُرُمات جمع حُرْمة، كالظُلمات جمع ظلمة، والحُرْمة كل ما منع الشرع من انتهاكه، وإنما جمعت لأنه أراد حرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام، وحرمة الإحرام، والقصاصُ: المساواة والمماثلة وقد تقدم.
والمعنى: إذا انتهكوا حرمة الشهر فقاتلوكم فيه فقاتلوهم أنتم أيضاًَ ولا تتحرجوا. قال الزجاج: أعلم الله المسلمين أنه ليس لهم أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء، بل على سبيل القصاص.
{التهلكة}: التهلُكة بضم اللام بمعنى الهلاك، يقال: هلكَ يهلك هلاكاً وتهلُكةً.
قال أبو عبيدة: التهلكةُ، والهَلاَك، والهُلْك واحد، مصدر هلك.
وفي اللسان: التهلكةُ: الهلاكُ، وقيل: كلّ شيء تصير عاقبته إلى الهلاك.
{المحسنين}: جمع محسن وهو الذي ينفع غيره بنفعٍ حسنٍ، أو يحسن عمله بفعل ما يرضي الله تعالى.

.المعنى الإجمالي:

يقول الله جل ثناؤه ما معناه: قاتلوا- أيها المؤمنون- في سبيل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه الذين يقاتلونكم من الكفار، ولا تعتدوا بقتل الأطفال، والنساء، والشيوخ، ممن لا قدرة لهم على القتال، فإن الله يكره البغي والعدوان أيّاً كان مصدره.
واقتلوهم أينما أدركتموهم وصادفتموهم، ولا يصدّنكم عنهم أنكم في أرض الحرم، وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة بلدكم الأصلي، الذي أخرجوكم منه ظلماً وعدواناً، والفتنة للمؤمنين وإيذاؤهم بالتعذيب والتشريد، والإخراج من الوطن، والمصادرة للمال، أشد قبحاً من القتل ولا تقاتلوهم- أيها المؤمنون- عند المسجد الحرام، حتى يبدؤوكم بالقتال، فإن قاتلوكم فاقتلوهم ولا تستسلموا لهم، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا عن عدوانهم فإن الله غفور رحيم.
ثمّ أكد تعالى الأمر بقتال الكفار، وبيّن الغاية منه وهي ألاّ يوجد شيء من الفتنة في الدين، فقال: قاتلوهم حتى تظهروا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم، ويكون الدين خالصاً لله، فلا يعبدون دونه أحد، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان، فإذا انتهوا عن قتالكم، ودخلوا في دينكم فاتركوا قتالهم لأنه لا ينبغي أن يعتدي إلا على الظالمين. ثم أخبر تعالى أنّ المشركين بإصرارهم على الفتنة وإيذائهم للمؤمنين، فعلوا ما هو أشد قبحاً من القتل، فقال مخاطباً المؤمنين: الشهر الحرام يقابل بالشهر الحرام، وهتك حرمته تقابل بهتك حرمته، فلا تبالوا- أيها المؤمنون- بالقتال فيه إذا اضررتم للدفاع عن دينكم، وإعلاء كلمة الله، فمن تعرّض لقتالكم واعتدى عليكم فقاتلوه، وردّوا عدوانه بلا ضعفٍ ولا تقصير، بمثل ما يعتدي عليكم، واتقوا لاله فلا تبغوا وتظلموا في القصاص، إن الله يحب المتقين.
ثم أمر تعالى بالجهاد بالمال بعد الأمر بالجهاد بالأنفس فقال: وأنفقوا في سبيل الله أي ابذلوا المال في سبيل الله لنصرة دينه، والدفاع عن الحق، ولا تبخلوا فتشحوا بالمال، فإن ذلك يضعفكم، ويمكّن الأعداء من نواصيكم فتهلكون، وأحسنوا فإن الله يحب المحسنين.

.سبب النزول:

أولاً: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صُدّ عن البيت، ونحر هديه بالحديبية، وصالحه المشركون على ان يرجع من العام المقبل رجع، فلما تجهز في العام المقبل خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم ويقاتلوهم، وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} قاله ابن عباس.
ثانياً: وروي أن المشركين قالوا للنبي عليه السلام: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال: نعم، وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام فيقاتلوه فيه فنزلت هذه الآية: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} قاله الحسن.
ثالثاً: وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت في عمرة القضاء وعام الحديبية في ذي القعدة سنة ست، فصدّه كفار قريش عن البيت فانصرف، ووعده الله سبحانه أنه سيدخله، فدخله سنة سبع وقضى نسكه فنزلت هذه الآية: {الشهر الحرام بالشهر الحرام}.
رابعاً: وروى ابن جرير الطبري: عن (أسلم أبي عمران) قال: كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر (عقبة بن عامر) وعلى أهل الشام (فضالة بن عُبيد) فخرج صفٌ عظيم من الروم فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة، فقام (أبو أيوب الأنصاري) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، إنّا لما أعزّ الله دينه، وكثّر ناصريه، قال بعضنا لبعضٍ سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله في كتابه يرد علينا ما هممنا به: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} فكانت التهلكة الإقامة في الأموال، وإصلاحها، وتركنا الغزو فما زال (أبو أيوب) غازياً في سبيل الله، حتى قبضه الله ودفن بالقسطنطينية.

.وجوه القراءات:

قرأ الجمهور (ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه، فإن قتلوكم فاقتلوهم) بالألف في (تقاتلوهم) و(يقاتلوكم) و(قاتلوكم) وقرأ حمزة والكسائي، وخلف بحذف الألف فيهن (ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكمفيه، فإن قتلوكم).
قال الطبري: وأولى هاتين القراءتين بالصواب قراءة من قرأ (ولا تقاتلوهم) لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حال إذا قاتلهم المشركون بالاستسلام لهم.

.وجوه الإعراب:

أولاً: قوله تعالى: {كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين}.
قال العكبري: (كذلك) مبتدأ، و(جزاء) خبره، والجزاء مصدر مضاف إلى المفعول، ويجوز أن يكون في معنى المنصوب ويكون التقدير: كذلك جزاء الله الكافرين.
ثانياً: قوله تعالى: {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} حتّى بمعنى (كي) ويجوز أن تكون بمعنى إلى أن، وكان تامة، والمعنى: وقاتلوهم إلى أن لا توجد فتنة.
ثالثاً: قوله تعالى: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين} عدوان: اسم (لا) والجملة (إلا على الظالمين) في موضع رفع خبر (لا) قال العكبري: ففي الإثبات يقول: العدوان على الظالمين، فإذا جئت بالنفي وإلاّ بقي الإعراب على ما كان عليه.

.لطائف التفسير:

الطيفة الأولى: لا يذكر في القرآن الكريم لفظ (القتال) أو (الجهاد) إلا وهو مقرون بعبارة (سبيل الله) وذلك يدل على أن الغاية من القتال غاية مقدسة نبيلة هي (إعلاء كلمة الله) لا السيطرة أو المغنم، أو إظهار الشجاعة، أو الاستعلاء في الأرض، وقد وضّح هذه الغاية النبيلة قوله عليه السلام: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
اللطيفة الثانية: قال الزمخشري عند قول الله تعالى: {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} أي المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشد عليه من القتل، وقيل لبعض الحكماء: ما أشدّ من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت.. جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت، ومنه قول القائل:
لقتلٌ بحدّ السيف أهون موقعاً ** على النفس من قتلٍ بحد فِراق

اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين}.
قال الإمام الفخر: فإن قيل: لم سمّى ذلك القتل عدواناً مع أنه حقٌ وصواب؟
قلنا: لأن ذلك القتل جزاء العدوان، فصحّ إطلاق اسم العدوان عليه كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40].
قال الزجاج: والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته أي جازيته بظلمه.
وجهل فلان عليّ فجهلت عليه. وعليه قول الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ..} الآية.
الدفاع عن النفس مشروع ولا يعدّ اعتداءً، وإنما سمي في الآية اعتداءً (فاعتدوا عليه) من باب (المشاكلة) وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى كقول القائل:
قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخه ** قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً

والأصل فيها (فمن اعتدى عليكم) فقابلوه وجازوه بمثل ما اعتدى عليكم، وباب المشاكلة وردت فيه آيات عديدة كقوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] وقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ} [التوبة: 79].
اللطيفة الخامسة: قال بعض العلماء: لا أعلم مصدراً جاء في لغة العرب على وزن (تفعُلة) بضم العين إلا في هذه الآية: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة}، وقال صاحب (الكشاف): ويجوز أن يقال: أصله التهلِكة، كالتجربة، والتبصرة على أنها مصدر من هلك فأبدلت من الكسرة ضمة كما جاء الجوار في الجوار.
قال الإمام الفخر: (إني لأتعجب كثيراً من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع، وذلك أنهم لو وجدوا شعراً مجهولاً يشهد لما أرادوه فرحوا به، واتخذوه حجة قوية، فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى، المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها).
أقول: ما ذكره الإمام الفخر هو الحق والصواب، فالقرآن الكريم حجة على اللغة، وليست اللغة حجة على القرآن، ورضي الله عن الإمام الفخر فقد أجاد في هذا وأفاد.
اللطيفة السادسة: الجهاد في سبيل الله أفضل القربات عند الله، ولا يعدله شيء من العبادات لقوله عليه السلام: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم، القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله».
كتب (عبد الله بن المبارك) إلى (الفُضيل بن عياض) بهذه الأبيات:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ** لعلمتَ أنك في العبادة تلعب

من كان يخضُب خدّه بدموعه ** فنحورنا بدمائنا تتخضّب

أو كان يتُعب خيله في باطل ** فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ** وهجُ السنابل والغبار الأطيب

فلما قرأها الفضيل ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني.